كتب : ثامر مراد
جالسٌ في غرفةٍ مكتبيةٍ في بقعةٍ من هذا العالم الممتد إلى جذورٍ بعيدة. مكتبي يطل على نافذةٍ كبيرةٍ جداً اقتطعت لها مسافة بحجم الجدار الحجري ألأنيق. بين فترةٍ وأخرى أرفع نظراتي ألمرهقه من على ألأوراق الكثيرة المبعثرة على المكتب الرخامي الفخم القابع في شركةٍ لم يًكتب أي عنوان على الجدار ألأمامي للبناية أو أي علامةٍ ترمز إلى تواجدنا في المكان الواقع في قلب العاصمة المكبلة بقيود البطالةِ في كل مكان.الرياح الباردة تنفذ إلى فضاء الغرفةِ الفسيحة وتهرب إلى أماكن أخرى للبناية الكبيرة. منذ ثلاثةِ أيام وقلبي يرتعش من الحزن والرأفةِ والترقب كلما نظرتُ إلى النخلةِ الشاهقة جدا في الزاوية المقابلة للمكتب الذي أجلس فيه. قبل يومين أو أكثر حدثت مجزره في هذا الركن الصغير الممتد من بداية البوابة إلى مكان تواجد النخلة. الكلب البوليسي الذي يحرس البيت أو لنقل الشركة قد شن هجوماً كاسحاً مميتاً على أي قطةٍ تزور المكان عن قصد أو كعابرة سبيل سولت لها نفسها للبحث عن قطعةِ خبزٍ مطمورةٍ بين النفايات أو ربما قطعةِ عظمٍ كانت قد شمت رائحتها يوماً وجاءت اليوم تستكشف موقعاً جديدا قد يقودها إلى قطعةِ لحم متروكةٍ في زاويةٍ من زوايا المكان المشبع برائحة العمل والمأكولات هنا وهناك. كان الكلب الشرس قد ساهم مساهمةٍ فعالة في تمزيق كل القطط التي مرت من هنا يوما ما. في اللحظة التي تواجدت فيها تلك القطة في الفسحة القريبة من النخلة هجم عليها الكلب الشرس من بعيد ، حاولت القطة أن تجد لها منفذا للهروب نحو عالم الحياة ولكن دون جدوى. كانت النوافذ المتاحة للهرب قد تم غلقها بطريقة أو أخرى. كان الموت الحتمي قد اقترب منها بشكل لايمكن نكرانه. لم يكن هناك وقتٌ للتفكير أو دراسة الوضع الذي يفرضها عليها الواقع الفعلي للحياة الدموية التي رسمتها لها الظروف الصعبة في غفلةٍ من الزمن. يجب على القطة أن تتخذ خطة للخلاص في لمح البصر أو كطرفةِ عين وإلا أصبحت كباقي القطط التي تحولت الى كومة من اللحم الممزق أو القاذورات في برميل النفايات.
وجاءت لحظة الخلاص غير المتوقعة، لاأدري هل هي غريزة البقاء على قيد الحياة أم أن الخالق الجبار عز وعلا قد منحها قوه خفية كي تنجو من هذا الجحيم الدموي الذي ينتظرها أثناء تقدم الكلب البوليسي كأنه صاروخ ينطلق ليمزق ألاحياء ألآمنه بحجة الحفاظ على السلام العالمي كما حدث في بعض المدن اليابانية وتلك القنبلة التي مزقت ملايين ألأطفال بلاذنب. حقاً أن هذا المخلوق الوحشي يشبه القنبلة الموقوته التي قد تقتل صاحبها إن أخطأ ألأعتناء بها. وقفزت القطة الوديعة الجميلة نحو النخلة السامقه جدا الشاهقة العالية كعلو تاريخ البلد الذي تمتد حضارته الى أكثر من ستة آلاف سنه. في تلك اللحظة عادت بي الذكريات والتأملات الى ذلك الزمن الذي تمت فيه زراعة هذه النخلة العملاقة. من زرعها؟ هل هو على قيد الحياة أم ينام تحت الثرى كباقي المخلوقات البشرية التي لفظت أنفاسها في معركةٍ شرسة كهذه التي مرت قبل لحظات أم بسببٍ أخر. .لو أنني أتمكن من العثور على الشخص الذي زرع هذه النخلة لذهبت اليه وركعتُ أمامه في لحظاتٍ قدسية ولمنحته أعز ما أملكه في هذه اللحظة” قطراتٍ من دموعٍ غزيرة ” . لقبلته ألاف المرات لأنقاذِ هذه المخلوقةِ ألأليفة بطريقةٍ غير مباشرة. قبعت المخلوقةِ الوديعه بين أشواك النخلة في القمةِ تنظر الينا بعينين متسائلتين عن سر هذا التوحش السلوكي الذي صدمها بجبروته دون أن يكون لها أي ذنبٍ…دون أن تفعل أي شيء يخل بآداب التصرفات اليومية التي سارت عليه منذ أن خًلقت .كانت نظراتها تبعث الي بشراراتٍ كهربائية حاقدة وكأنني المسؤول ألاول عن خلق كل التناحرات والصراعات بين أبناء المخلوقات البشرية وغيرها. كانت تعابير وجهها ترسم علاماتِ أستفهامٍ لاتُعد ولاتُحصى . هي تشرف ألأن على كل العاصمةِ الغارقةِ بألاف المشاكل الظاهرة والخافية عن ملايين الناس الفقراء أمثالي. .كانت تسخر من أي شيء ينتمي الى الحضارةِ التي أدعيها أو كنتُ قد قرأتُ عنها في مصدرٍ من المصادر التي خطتها مئات ألايادي على مر التاريخ. كانت نظراتها تخاطبني بصمتٍ مرعب” أنتم معشر البشر مخلوقاتٍ لاتُراعون مشاعرنا نحن المخلوقات الضعيفة. تشعرون بالفخر وألأعتزاز حينما تطلقون النار على طيرٍ في السماء أو سمكةٍ صغيرةٍ تسبحُ في الماء . تبررون تصرفاتكم الوحشيةِ هذه بحجة الصيد والترويح عن الذات بعد يومِ عملٍ مرهق. من أنتم كي تحكمون علينا نحنً الحيوانت ألأليفة بالموت في أي لحظةٍ تشاؤون. سيأتي اليوم الذي نقف فيه جميعاً أمام الخالق الجبار الذي لاتخفى عليه خافيه. ستتم محاكمتكم بعدالة في يوم الحساب. أنا أسعد حظاً من ألاف البشر أمثالكم . كيف؟ قد يسأل سائلٌ منكم في لحظةِ هدوء وساعةِ راحة. أنا لأافكر بالاموال الطائلةِ التي تحلمون بتحقيقها بأي وسيلةٍ كانت. أنا لا أخدع ألأخرين ..لاأغش أحداً من أبناء جنسي. همنا الوحيد أن نعيش بسلامٍ .. لم أعد أحتمل نظراتها القاسية الهادئة في نفس الوقت. شعرتُ أنني مخلوق عاجز عن تقديم أي حالة من حالات ألأنقاذ التي تتطلبها المواقف ألأنسانية في لحظاتٍ كهذه. كنتُ أنظر الى النخلةِ من داخل الغرفة المشرفة على موقع الحدث. حاولت أشغال نفسي بأعداد أعداد كثيرة من التقارير المتعددة التي يتطلبها العمل الذي تم تكليفي به. كلما حاولت كتابة كلمة أو أكثر كانت أصابع يدي اليمنى تضغط على القلم بشكل مرعب وبقوة لاتعادلها قوة في هذا الكون. حاولت أن أعبر عن ثورة الغضب التي تسري في كياني ، أردت تمزيق أي شيء كي أرتاح من هذا العذاب الذي بدأ يحيل حياتي الى سعيرٍ من لهيبٍ لاينتهي طيلة ساعات العمل اليومية. رحتُ أضغط وأضغط على القلم بوحشية الى أن تهشم في لمح البصر. دون وعي راحت الدموع الغزيرة تتساقط على الورقة التي كنت ُ أكتب عليها أشياء مبهمة لآلاف البشر في الشوارع وألازقةِ والطرقات. أنا مخلوقٌ شفاف قضيتُ جل حياتي بين الروايات الخيالية وقصص معانة العشاق في كل زمانٍ ومكان. أكره العنف وكل شيء ينتمي الى المعارك الشرسه ولكن القدر القى بي يوماً ما في سهولٍ وربايا وتلالٍ ومياه وغابات دارت فيها معارك طاحنه أشرس من هذه المعركة التي دارت قبل قليل. في نهر جاسم تمزقت أحشاء خليل ونحن نتاول طعام الغداء بعد هجومٍ لايطاق..وفي الفاو كنا نعلق أحذيتنا في رقابنا والبنادق فوق رؤوسنا ونخوض في مياهٍ مالحة على شكل خطٍ ميسمي كي لايكتشفنا الطرف الأخر. وفي لحظة لم تكن في الحسبان تمزقت مئات ألأجساد وطافت في المستنقع بلا حركات وبعضهم يصرخ بأعلى صوته ” يمه راح أموت”. وكان الضابط الذي يقودنا يصرخ بأعلى صوته” وليداتي خلصوا أنفسكم”. كان المقدم كبير السن أشيب الرأس لايعرف ماذا يفعل؟ أكثر من نصف جنودة قد لفظوا أنفاسهم والبقية الباقية تطلب النجدة. كنتُ أرتجف من قمةِ رأسي حتى أخمص قدمي أنظر اليه كأنه المسؤول عن هذا الموت بالجملة. وقبل أن يقول شيء أخر قطعت رأسة شظية وتهاوى على ألارض يرتعش كدجاجة مذبوحة في عرس ٍ ملطخ بالعار والخوف من كل شيء.. عادت الى ذهني تلك الذكريات المرعبة وأنا أنظر الى القطة التي كانت تحاول التحرك من مكان الى أخر داخل قلب النخلةِ الشاهقة. ركعتُ في الغرفةِ ألأنيقة التي كانت مكتباً لي في عملي الذي لم يمضي عليه سوى أسبوعٍ أو أكثر بقليل ورفعتُ يداي الى السماء ورحت أردد مع ذاتي صلوات الدعاء للخالق كي ينقذ تلك المخلوقةِ البريئة التي لم ترتكب أي إثم سوى البحث عن قطعةِ خبزٍ كسيرة أو قطعةِ لحم ملقاة في مكانٍ هنا وهناك. ماذا أستطيع أن أفعل كي تعود الحياة الطبيعيةِ لها؟ لاشيء . أنا مكبلٌ مثلها كأي مخلوقٍ بشري خرج في الصباح الباكر كي يبحث عن لقمةِ عيشٍ في هذا العالم الدموي الذي لايعرف أي شيء سوى لغة العنف والدمار. إذن أنا محبوسٌ مثلك أيتها القطة البيضاء بياض الثلج في يومِ منجمد. كيف ستقضين الليل البارد الزمهريري هذا؟ كيف ستنامين هناك بين ألاشواك الممتدة في كل غصنٍ من أغصان شجرةِ النخيل هذه؟ ستموتين من شدة العطش كما مات بعض الجنود في صحراء الكويت ونحن نركض وسط الصحراء خوفاً من الطائرات ألأمريكية السوداء المرعبة التي لاتفرق بين العجلات العسكرية والجنود الفارين من لهيب النار غير المتكافيء .
لو كان بألأمكان لألقيتُ لك قنينةِ ماء من هنا ولكن هذا سيكون ضرباً من ضروب المستحيل. لقد فعلتُ ذلك من قبل ولكن كانت النتيجة مأساوية. في يوم الفرار من لهيب المعركة في ” المطلاع” كنت مع مئات الجنود المتشبثين بالحياة حتى أخر لحظة. كانت الشاحنه العسكرية التي يقودها العريف ” علي” تشق الصحراء المرعبة هاربين من صحراء الكويت بأتجاه البصرة ومئات الجنود معلقين في الفضاء الخارجي للسيارة وكان نصيبي مكان صغير في جانب من جوانب ” الريو.. السيارة العسكرية الكبيرة”. ألاف الجنود يركضون في الصحراء يتوسلون بالسائق أن يقف كي ينقذهم ولكن كيف ينقذهم ولايوجد مكان لقدمٍ واحدة. من بعيد شاهدت أحد الجنود يؤشر لي أو لنا جميعا أن نمده بقطرة ماءٍ واحدة. دون وعي ألقيتُ له القنينةِ الوحيدة التي كانت معي وقد ملأتها من ماء المطر أنذاك. قذفتها بأعلى قوة كامنه في جسدي ورفع يديه ولكنه لم يستطع تلقفها وتمزقت على الرمال. شاهدته من بعيد يحاول التشبث ببقايا الماء في القنينة ولكن دون جدوى فقد ذابت في الرمال في لمح البصر. أغمضتُ عيناي كي لأا رى حالة البؤس التي إرتسمت على وجههِ في تلك اللحظة. ماذا سأفعل ألان كي أقذف لك قنينةِ ماء أو أي شيء اخر.؟…هذا هو قدرك وهذا هو قدري معك. ستموتين بعد يومٍ أو ساعة أوأسبوع. الكلب البوليسي ينتظر ….ولايهمه ألانتظار. هذا هو واجبه . الحق يُقال لقد كان يؤدي واجبه المكلف به. لقد أداه على أكمل وجه. لم يكن متقاعساً لحظةٍ واحدة ، وهذا هو الغرض من تواجده في هذا المكان . كنتِ بالنسبةِ له عدوا جاء يستكشف مكاناً لايسمحٌ له بالدخول فيه. لو لم يكن كذلك لأصبح وجوده بلا فائدة. هو لايعترف بالمعاملات ألانسانية ولامباديء حقوق الحيوان. هو جندي جاء للعمل في ظرفٍ من الظروف التي حتمت عليه التواجد في هذا الصرح المشيد منذ أمدٍ بعيد. ثلاثة أيام وطيفكِ أيتها المخلوقةِ البريئة لايفارق ذاكرتي أبداً. كلما تدثرتُ في البطانية الفارهة ِ التي رُسم عليها مخلوقاً يشبه النمر أتذكر حالتك التي تمرين فيها وأنتِ تنوئين تحت برودةِ الطقس المنجمد بعد منتصف الليل. من يدري قد أعود بعد يوم أو يومين كي أراك جثة متجمدة ساقطة عند جذور النخلةِ الباسقةِ أو مجرد أحشاء ممزقه عند حاوية النفايات أو من يدري قد تجدين لك مخرجاً من هذا الجحيم الذي لاينتهي.. حل المساء وجاءت ساعات إنتهاء العمل. خرجت نحو الشارع الطويل أنظر اليك وأنت معلقه على تلك الشجرة وحيدة تنزفين دموع الحسرة والوحشة والغربةِ والضياع. كانت روحي معلقه معك هناك ومشاعري ترسل اليك آهات الحزن واليأس والعذاب. لأاحد يستطيع إنقاذك إلا الله الذي خلقك وبث فيك روح الحياة والحركة. من يدري قد يكون هناك فارس شجاع يشمر عن ساعديه ويرسل لك بصيصاً من الأمل في وقتٍ ضاع فية كل ألامل وعم المجتمع رداء الحشرجةِ ولفظ ألأنفاس.
admin
Latest posts by admin (see all)
- رئيس جامعة بني سويف: خطة متكاملة استعداداً لانطلاق امتحانات الفصل الدراسى الأول - 25 فبراير,2021
- عضو بالشيوخ: الزيادة السكانية أهم تحدي أمام تقدم الدول وتحسين حياة المواطنين - 25 فبراير,2021
- رئيس جامعة بني سويف: يتبنى مبادرة رعاية الطلاب الأيتام بالجامعة - 25 فبراير,2021
- بعد مرور عام على عملية الاستعراض.. الحكومة التركية تتجاهل تعهداتها أمام الأمم المتحدة - 25 فبراير,2021
- شركة اوناش زلزال لرفع وتنزيل الاثاث والاجهزة الكهربائية - 25 فبراير,2021
اترك تعليقاً